السبت، 13 يونيو 2009


مسألة الانفتاح على الآخر
أحمد أبورتيمة

ما دفعني للحديث في هذه المسألة هو رسالة أرسلها أخ ناصح يحذرني فيها من القراءة لأحد الكتاب،لأنه يحمل أفكاراً منحرفةً وتتعارض مع الدين بحسب رأيه.
وبغض النظر إن كان رأي الأخ صائباً أم خاطئاً فإن السؤال الأساسي ماذا لو كان هذا الكاتب فعلاً يحمل أفكاراً خاطئة،هل نرفض القراءة لأحد لمجرد أننا لا نتفق معه في جانب من تفكيره؟
الحقيقة أن كل إنسان يؤخذ منه ويرد إلا النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد كرم الله الإنسان بالعقل وأودع فيه القدرة على التمييز ،وطبيعة العقل تقتضي ألا نفرض عليه حدوداً لا يتعداها،بل ينطلق في كل اتجاه،ويخضع الأمور لميزانه،فإن تطابقت معه قبلها ،وإن تناقضت رفضها،ومن يرفض الاطلاع على أفكار الآخرين أو يوصي أتباعه بذلك مخافة التأثر بها فهو يدين أفكاره ويعطي دليلاً واضحاً بعجزها عن المواجهة.
والإسلام لا يستمد قوته من الانغلاق على ذاته،بل من قدرته الذاتية على الإقناع،لذا فهو لا يخشى المواجهة الفكرية بل يدعو إليها ليعرف الناس بسمو مبادئه،ويكشف بطلان المبادئ الأخرى،وحين ندعو إلى الانكفاء على الذات فإننا نسيء للإسلام بطريقة غير مباشرة فنصوره وكأنه عاجز عن إثبات جدارته أمام الآخرين.
إن أي فكرة في الوجود مهما كان مصدرها هي إحدى اثنتين،إما أنها صائبة أو خاطئة،فإذا كانت صائبة فما الضرر من الاستفادة منها حتى لو كانت من ثقافة أخرى والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها،ومؤشر النضج الفكري أن نناقش الأفكار وليس الأشخاص،وفي عالم الأفكار نتعامل مع الفكرة مجردةً من أي ارتباط ،أما الأشخاص فلا نتعامل معهم بمنطق الثنائية'إما أن نقبل كل أفكارهم جملة أو نردها جملة ' ولكن نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم،وحين علم الشيطان أبا هريرة قراءة آية الكرسي قبل النوم وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قال له:'صدقك وهو كذوب'،في درس بليغ بالاستفادة من الفكرة الصحيحة حتى لو كان مصدرها الشيطان ذاته.
وأما إن كانت الفكرة باطلةً فإن إخضاعها لميزان العقل هو الذي يسقطها ،وكشف بطلانها يأتي بمزيد من الاطلاع والقراءة وليس بالامتناع عنهما ،لأن حركة الفكر ذاتية فهو يصحح ذاته بذاته، والخطورة ليست في مطالعة الأفكار الأخرى،بل في الاستقاء من مصدر فكري واحد فتتوقف وظيفة العقل وينتج الجمود والتقليد الأعمى.
إن قيمة الانفتاح على الآخر هي أن البشر بحاجة إلى بعضهم،وكل أمة تملك ما يمكن أن تفيد به الأمم والشعوب الأخرى،صحيح أننا نحن المسلمين نملك بين أيدينا كتاب الله وسنة رسوله وهما المنهج الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،لكن داء الأمم يصيبنا في فهم هذا المنهج وتطبيقه، فإذا كان القرآن والسنة هما الحق المبين فإن تفاعلنا معهما ليس كذلك بل هو خليط من الصحة والخطأ،والقرآن ذاته هو الذي دعانا إلى السير في الأرض والاستفادة من تجارب الأمم الأخرى بل إنه جعل التعارف بين البشر غايةً وجودية:'وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا'.
كما أن الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام،فمخالطة اليابانيين مثلاً من شأنه أن يضيف إلينا كثيراً من القيم الإيجابية التي نفتقدها رغم أننا مسلمون وهم ليسوا كذلك إلا أن العبرة بالمعدن.
ويخطئ البعض حين يظن أن الانغلاق على الذات أسلم للدين وللإيمان، فالانغلاق لا يصنع إيماناً بل عادات وتقاليد جامدة،ومن لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام،أما السبيل إلى صناعة الإيمان فهو بإعمال العقل والفكر،لذا فقد تضمن القرآن مئات الآيات الداعية إلى التفكر والتدبر والتأمل،وما تعنيه هذه الدعوة من مناقشة الأفكار والشبهات.وأفضل الطرق لبناء الذات هو بإطلاق الفكر ومخالطة الناس،فتكتسب حصانةً ذاتيةً ضد المؤثرات الخارجية تماماً كما يواجه الفيروس بمضاد حيوي من جنسه،ومن يفتح نوافذ بيته يتنفس الأكسجين النقي ومن يغلقها يختنق ويموت، والفكر السليم يولد بالتزاوج بين الأفكار المتنوعة فينشأ الإنسان المتوازن غير المتعصب إلى لون واحد.
ثم لو كان الانغلاق ممكناً في عصور سابقة فإنه مستحيل في هذا العصر الذي تحطمت فيه الحدود والحواجز والتغت المسافات بين الشعوب والثقافات وزويت مشارق الأرض ومغاربها بفضل التقدم العلمي والتقني الهائل،ولم يعد أمامنا من خيار سوى مواجهة الفكر بالفكر،ومدافعة الثقافة بالثقافة،وعرض بضاعتنا أمام الناس لتنافس البضاعة الأخرى،فتبقى الفكرة النافعة وتنتشر بين الناس،أما الفكرة الباطلة فتمحى وتذهب جفاءً غير مأسوف عليها حتى لو كانت من صناعتنا:(فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال)
وما دمنا واثقين بأننا على الحق فإن علينا أن نكون مطمئنين للغلبة والعاقبة،وأن نلقي ما في يميننا من أفكار وقيم تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى.

التعسير في الزواج

التعسير في الزواج
بقلم: أحمد أبورتيمة

شرع الله الزواج لسد الحاجة الفطرية للإنسان وإشباعها بطريق حلال حتى لا ينحرف نحو الفاحشة والحرام،وليؤسس لأسرة مسلمة تكون لبنة لمجتمع مسلم.لكن حال مجتمعاتنا اليوم هو أشبه ما يكون بحال بني إسرائيل الذين عسروا ما يسر الله عليهم فوضعوا في أعناقهم إصراً وأغلالاً ما أنزل الله بها من سلطان،وكان الإنسان ظلوماً جهولاً.
الأساس في الزواج أن يكون هناك ارتباط شرعي بين ذكر وأنثى،غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة،أما غير ذلك من التفاصيل فهي ثانوية لا يؤثر وجودها أو غيابها أو التخفيف منها في الأساس شيئاً،وحين نتأمل حياة القرون الأولى من هذه الأمة نجد أن الزواج كان يتم بأيسر الطرق ،وبعيداً عن التكاليف والتكلف،وكان أحدهم يخطب المرأة ثم يبني عليها في أيام قليلة أو حتى ساعات، كما في قصة التابعي الجليل سعيد بن المسيب الذي زوج ابنته الجميلة لتلميذه الفقير بدرهمين،وليس هذا هو موضع العبرة الوحيد في القصة ولكن لنستمع إلى مقطع من الرواية على لسان التلميذ وهو يقول: انصرفت إلى منزلي فأسرجت و كنت صائما , فقدمت عشائي لأفطر - وكان خبزا وزيتا- و إذا بابي يقرع , فقلت من هذا؟ قال: سعيد ،فخرجت إليه فإذا به سعيد بن المسيب ,فقلت له: يا أبا محمد لو أرسلت إلي لأتيتك , فقال :لا أنت أحق أن تؤتى , قلت : فما تأمر ؟ قال : إنك كنت رجلا عزباً فزوجت , فكرهت أن تبيت الليلة و حدك , و هذه امرأتك , فإذا هي قائمة خلفه في طوله , ثم أخذها فدفعها في الباب و رده ,' هكذا بكل بساطة دفع إليه زوجته وانصرف،ولم نسمع عن انتظار حتى تكمل الفتاة تعليمها،ولم نر في المشهد حفلات وصالات وولائم فاخرة ومواكب فارهة.فقد كان مجتمعاً قريباً من الفطرة السليمة.
وحين نذكر هذه القصة،ومثلها كثير في تاريخنا الإسلامي،لا يعني أننا نغفل طبيعة عصرنا وما طرأ فيه من تغير في الظروف وزيادة التعقيدات والتكاليف،لكن المعنى العام الذي نستفيده من هذا التراث هو التيسير والبعد عن المغالاة ورد الأمور إلى الفطرة السليمة،وأن نخفف كثيراً من التفاصيل الثانوية والمرهقة لشبابنا .
ومعظم الناس يحفظ عن النبي عليه السلام حديثه:'أقلهن مهوراً أكثرهن بركة' لكن معظم هذا المعظم زاهد في هذه البركة التي ذكرها الحديث،ويصر على تزويج ابنته بأغلى المهور-لأن ابنة فلان ليست أحسن منها-وليت الأمور تتوقف عند المهور وكفى،لكن أضف إليها ما ابتدعوه من شبكة وحفلات وفرق، وصالة يختارها أهل العروس ،وولائم للإسراف والتبذير،وبدل للعروس واحدة ليوم الخطبة وثانية ليوم الحنة،وثالثة للزفاف،ورابعة للصباحية،وكلها بأسعار خيالية للتأجير فقط وليس للشراء،و'إن هي أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان.
أما الشقة وما بها من مشقة فقصة قائمة بذاتها، فيجب أن يفني العريس عمره ليأتي بثمنها،هذا في حال كان محظوظاً وقد نجا من شبح البطالة.
وبعد كل ذلك يشترط أن يكون مع العريس بضعة آلاف من الدولارات للنثريات والتكاليف الأخرى التي لا تندرج تحت البنود السابقة،والتي تزيد أو تنقص في تناسب طردي مع مستوى التخلف الاجتماعي.
والعجيب أن أهل العروس يتعاملون مع خاطب ابنتهم وكأنه قادم من كوكب آخر،وليس بأنه جزء من نفس المجتمع الذي يعايشون معاناته ويرون ما فيه من بطالة متفشية وتكاليف باهظة،وحين ترى مغالاتهم في المهور والتكاليف تظن أن ابنتهم ليس كمثلها شيء،وهي كغيرها من بنات جنسها ،ومن الآباء من كلفه هذا الكبر أن تعنس ابنته،بعد أن رفض كل من تقدم لخطبتها لسبب أو لآخر حتى يشبع غروره.
إن هذا التعقيد والتعسير في أمر قد يسره الله لنا هو نتيجة للثقافة الخاطئة الشائعة في مجتمعاتنا،والتي جعلت المغالاة والتبذير والإسراف من عائلة العريس دليل مكانة مرموقة في المجتمع،وجعلت تشديد أهل الفتاة على من يتقدم لخطبتها ضمانة موهومة لحفظ مكانتها بعد الزواج،رغم أن الحديث النبوي يقول:'إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه' فالضمانة هي الخلق والدين فإذا توفرا فإنه سيحفظ ابنتهم،وبعد الزواج يبدآن ببناء مستقبلهما تدريجياً ويخوضان معركة الحياة معاً بحلوها ومرها ويواجهان تحدياتها ،ذلك خير من أن ينتظر الشاب والفتاة لسنوات طويلة قبل أن يأذن لهما المجتمع بالسكن والاستقرار ،لكن الناس ابتدعوا ديناً خاصاً من العادات والتقاليد يحتكمون إليه أكثر مما يحتكمون إلى دين الله وإن صاموا وصلوا.
إن من يشق على الناس يشق على نفسه،لأنه كما تدين تدان،والجزاء من جنس العمل،فمن يعسر في تزويج ابنته اليوم سيجد غداً من يعسر على ابنه حين يتزوج 'وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون'، وهذه الطريق تصل بالمجتمع إلى الانتحار ، فكل تعسير في الحلال هو تيسير للحرام،ومن يسد في وجوه أبنائنا وبناتنا طريق العفة والإحصان فإنه يدفعهم إلى اليأس والإحباط،وربما لجأ ضعاف النفوس منهم إلى الفاحشة
تحت إلحاح نداء الفطرة،والرسول صلى الله عليه وسلم قال في تتمة الحديث سابق الذكر:'إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير'،فتحصين المجتمع وحمايته من الفتنة والفساد تكون في التخلص من هذه الثقافة العقيمة التي تحكمنا اليوم،ونشر ثقافة التيسير بين الناس، وهنا يأتي دور وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة،في تعزيز هذه الثقافة،كما يأتي دور المصلحين والدعاة من صفوة المجتمع في تقديم أسوة حسنة للناس عند تزويج بناتهم،فلا يعقل أن نقنع عامة الناس بأمر وهم يرون من يتخذونهم أسوةً في المجتمع يفعلون خلاف ذلك: 'أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون' .

والله تعالى أعلم..
abu-rtema@hotmail.com

الجمعة، 12 يونيو 2009

قل هو من عند أنفسكم


قل هو من عند أنفسكم
بقلم:أحمد أبو رتيمة

'كل ابن آدم خطاء'حقيقة يقررها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم،فالخطأ طبيعة ملازمة للإنسان لا مفر منها،وفي القرآن العظيم:'وخلق الإنسان ضعيفاً'.

لكن الناس يتمايزون في التعامل مع هذه الحقيقة،فهناك من إذا رأى نتيجة خطئه وعقوبة ذنبه وبدت له سوءته سارع إلى مراجعة نفسه والتوبة إلى ربه،،وهذا هو الفريق الذي أشار إليه الشطر الآخر من الحديث 'وخير الخطاءين التوابون' وهذا الفريق يظل في دائرة الرحمة الإلهية وإن عاد إلى الخطأ مرةً بعد مرة،لأن خطأه ليس نتيجة إصرار واستكبار بل هو نتيجة ضعفه الطبيعي،وفي الحديث الشريف:'لا يمل الله حتى تملوا'.

أما الفريق الآخر فهم الذين يصرون ويستكبرون استكباراً،ويتمادون في ضلالهم دون مراجعة للنفس،بل ينزهونها عن الخطأ،وإذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم لا يتوبون ولا يستغفرون،وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها.

وقد ضرب لنا القرآن الكريم مثلاً للفريقين،فأما الفريق الأول فمثله أبونا آدم وأمنا حواء عليهما السلام حين أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عنها،فلما رأيا نتيجة المخالفة بأن بدت لهما سوءاتهما،سارعا إلى مراجعة أنفسهما وإلى التوبة:(قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)،ورغم أن القرآن ذكر صراحةً بأن الشيطان هو الذي أزلهما ووسوس لهما بالأكل من الشجرة المحرمة،إلا أنهما حملا مسئولية الخطأ لأنفسهم،وطلبا من الله المغفرة والرحمة،فكانت نتيجة هذه الشجاعة في تحمل المسئولية ولوم النفس بأن تلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه.

أما مثل السوء فكان إبليس الذي تكبر عن طاعة ربه وأبى السجود لآدم ونزه نفسه فقال: 'أنا خير منه' ،وأصر على المعصية فلم يتب إلى ربه،فكانت النتيجة هي الطرد من الجنة،واستحقاق اللعنة إلى يوم الدين،وبعد كل هذا لم يقف مع نفسه وقفة حساب فيلومها بل نسب إغواءه إلى الله عز وجل:'قال فبما أغويتني'.

من هذه المشاهد القرآنية تستبين أمامنا سبيلان:

سبيل آدم وفيها مراجعة النفس،ولومها،والتوبة والإنابة،وسبيل إبليس وفيها العناد والاستكبار وتنزيه النفس وتحميل المسئولية لعوامل خارجية.

من يتبع سبيل آدم تفتح أمامه أبواب الرحمة والمغفرة الإلهية،ويضع قدميه في طريق الهداية ،فمن يعترف بمسئولية نفسه عن الخطأ ويدينها تكون لديه القابلية لتغيير ما بها وإصلاحها لأن الإنسان يملك أن يغير ما بنفسه،أما من يتبع خطوات الشيطان ويرفض الاعتراف بالذنب وينزه نفسه،وينسب الخطأ إلى الآخرين فإنه يبتعد عن الرحمة الإلهية،ويغلق أمامه أي طريق للحل والاهتداء،فما دامت النفس منزهة،وما دامت المشكلة من عند الآخرين،فلن يصلح من نفسه وسيتمادى في ضلاله.

وقد حفل القرآن الكريم بشواهد عديدة تدعو إلى الالتفات إلى داخل النفس لا إلى خارجها لتفسير ما يواجهها من مصائب،وقد أقسم الله عز وجل في مطلع سورة القيامة بالنفس اللوامة وهي النفس التي تكثر من لوم صاحبها،وحين أصيب المسلمون في غزوة أحد ولم يكونوا قد عهدوا الهزائم تساءلوا مستغربين:'أنى هذا' فنزل القرآن يعلمهم درساً في تحميل النفس دون غيرها المسئولية فرد عليهم:'قل هو من عند أنفسكم' ،بل ذهب القرآن أبعد من ذلك في هذا الاتجاه حين قال:'وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم'،مستخدماً أسلوب القصر والحصر أي أنه لا توجد مصيبة صغيرة أو كبيرة،والمصيبة هي كل ما يكره الإنسان،سواءً كانت هذه المصيبة على مستوى الفرد أو الجماعة،فمرد هذه المصيبة إلى ما كسبت أيديكم،ويعف عن كثير، وفي الحديث الشريف أنه ما يصيب المؤمن من خدشة عود أو عثرة قدم أو اختلاج عرق إلا بذنب أصابه،وفي حديث آخر:'إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه'، وحين دخل أحد الناس على الحسن البصري وشكا له عدم الإنجاب قال له:استغفر الله،وبعد قليل دخل رجل آخر وشكا الفقر فقال له استغفر الله،وبعدها دخل ثالث وشكا له قلة الزرع فقال له:استغفر الله،ويروى عن أحد السلف أنه كان يقول:'إني لأعرف حسنتي من سيئتي من خلق دابتي ومن خلق زوجتي'.

مما سبق يتضح لنا أن كل ما يصيبنا سواءً على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات والأمم من فقر و مرض و هم و تعسر أمور،وهزائم وتراجع حضاري وظهور الأمم علينا فهو نتيجة حتمية لما كسبت أيدينا،و بدلاً من لوم الآخرين علينا أن نلوم أنفسنا وأن نرجع إلى الحق ونتوب أفراداً وجماعات 'وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون'.

إن قيمة هذا الفهم في حياتنا هو أنه يوجه الجهود إلى محلها الصحيح وهو الداخل،ولا يهدر الطاقة في اللعن والسب وتحميل الآخرين مسئولية الفشل،كما أنه يضفي على النفوس حالة من الطمأنينة والرضا فكل ما يواجهنا هو بظلمنا لأنفسنا قبل أن يكون بظلم الآخرين لنا،وحين نغير ما بأنفسنا سيغير الله ما بنا،كما أن هذا الفهم يعزز الرقابة الداخلية في نفوسنا فمن يعلم أن لكل فعل يقوم به نتيجة عاجلة فإنه سيراقب نفسه وبالتالي ستستقيم حياته .

بمثل هذه المفاهيم يضع الإنسان قدميه في طريق الحل،ويعود نفسه على تحمل مسئولية كل ما تقدمه يداه،ويخرج من دائرة الشكوى ونقد الآخرين إلى دائرة الفعل والإنتاج.

abu-rtema@hotmail.com